في هدوء معتاد يصاحب تلك التقارير رغم خطورتها، صدر الجزء الثاني من التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية لتغير المناخ IPCC التابعة للأمم المتحدة، والذي يرصد آثار تغير المناخ على الناس والنظم البيئية، وذلك نهاية فبراير الماضي، التقرير دق ناقوس الخطر بعنف بشأن التغير المناخي واحترار كوكب الأرض.
ويعد هذا التقرير بدون مبالغة أحد أهم التقييمات لحالة التغير المناخي في تاريخ البشرية، ويحمل بين طياته خبرين أحدهما جيد والآخر سيء.
الخبر الجيد أن الفرصة مازالت أمامنا للعيش المستدام عبر اتباع استراتيجية التكيف مع الاحتباس الحراري الحادث فعلا، فقد زادت درجة حرارة الأرض بمقدار 1.1 درجة مئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، والحد في الوقت نفسه من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري حتى لا يتجاوز هذا الارتفاع 1.5 درجة بنهاية القرن الحالي، والتي لا يفصلنا عنها سوى 78 عاما فقط.
أما الخبر السيء فهو أن هذه الفرصة قصيرة الأجل وسرعان ما سوف تتلاشى بأسرع مما توقع العلماء قبل عقد مضى، وهو ما دفع أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إلى القول بأن “التأخير يعني الموت”.
التقرير استند إلى 34 ألف دراسة ووثيقة علمية، وشارك فيه ما يزيد عن 270 عالم وباحث، ويمكن تلخيص أبرز ما جاء فيه من خلال النقاط التالية:
- ما بين 3.3 مليار و 3.6 مليار شخص – أي أكثر من 40٪ من سكان العالم- يعيشون في أماكن وفي أوضاع “شديدة التأثر بتغير المناخ”.
- يتعرض 1 من كل 3 أشخاص للإجهاد الحراري القاتل، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى ما يصل إلى 3 من كل 4 بحلول نهاية القرن.
- مليار شخص يعيشون على السواحل معرضون للخطر بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر وتآكل السواحل، بحلول عام 2050.
- يعاني ما يقرب من نصف سكان العالم من ندرة المياه الشديدة في فترات مختلفة من العام، وسوف يرتفع عدد الأشخاص المتضررين بشكل كبير في السنوات القادمة.
- أدت موجات الحر البحرية إلى موت الشعاب المرجانية على نطاق واسع في المياه الاستوائية، وتحولت مناطق غابات عشب البحر الخصبة إلى قاع محيط شبه لا حياة فيه، وانخفض إنتاج الأسماك والعوالق، مما أدى بدوره إلى نفوق جماعي للطيور البحرية جراء الجوع.
- تسبب تغير المناخ بالفعل في زيادة معدلات الوفيات وانتشار الأمراض في جميع أنحاء العالم، جراء الكوارث ذات الصلة فعلى سبيل المثال يساهم استنشاق الدخان الناتج عن حرائق الغابات في حدوث مشاكل في القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي، ارتفاع درجات الحرارة، من المتوقع أن يزداد تواتر حرائق الغابات بنحو 30٪ على مستوى العالم بحلول نهاية القرن إذا استمرت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمعدل مرتفع، على جانب أخر، فقد أدت زيادة هطول الأمطار والفيضانات إلى انتشار الأمراض المنقولة مثل الكوليرا.
- أدى تغير المناخ إلى خفض نمو الإنتاجية الزراعية في الكثير من دول العالم، وهو ما يشكل تهديدًا خطيرًا لسبل العيش والأمن الغذائي العالمي، وإذا استمر الاحتباس الحراري العالمي فمن المتوقع أن يعاني 183 مليون شخص من الجوع بحلول عام 2050، وسوف يؤثر التقزم الشديد الناتج عن سوء التغذية على مليون طفل في قارة أفريقيا وحدها.
- التغيرات المناخية القاسية، وارتفاع درجات الحرارة، وتزايد موجات الجفاف، وارتفاع مستوى سطح البحر ستؤدي إلى المزيد من عمليات النزوح البشري، والتي من المرجح أن تستمر داخليًا داخل البلدان، مما سيؤدي إلى تزايد الهجرة من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، ومن ثم أصبح التخطيط الحضري النشط ضروري لإدارة هذا التغيير الديمغرافي.
- للطبيعة حدود صارمة في التكيف بعدها لا يمكن عكس اتجاه التدهور، وتزايد وتيرة حرائق الغابات خير مثال على ذلك فبالرغم من أن الغابات كانت دوما مرنة في مواجهة ظاهرة حرائق الغابات لأنها تتكيف معها منذ عشرة آلاف عام، إلا أنها قد وصلت بالفعل للحد الأقصى من التكيف بسبب الاحترار والجفاف، وهو ما نعنيه بالحدود الصارمة للتكيف والتي أدت في كثير من الأحيان إلى انقراض فصائل من الحيوانات والنباتات والتي لم يعد من الممكن عودتها للحياة.
يمثل ما سبق جانبا من الحقائق المؤلمة والتحذيرات المرعبة التي طرحها التقرير، وتبقى الإشارة إلى أهم ما أبرزه هذا التقرير وهو أن التكيف مع أزمة المناخ يمثل “مشكلة اجتماعية” بقدر ما يمثل مشكلة علمية، وأن أفضل طريقة لتوفير حماية فعالة ومستدامة من الفوضى المناخية هي من خلال العمل على معالجة “اللامساواة” القائمة على الجنس والعرق والإعاقة والعمر والموقع والدخل، فقد كشف التقرير عن أن “اللامساواة” عنصر حاكم في قضية التغيرات المناخية، فأكثر المجتمعات والفئات المعرضة للخطر جراء التداعيات الكارثية لتغير المناخ هي المجتمعات الفقيرة والفئات الهشة، في حين أنها لم تساهم في إحداث المشكلة سوى بقدر ضئيل للغاية.
ومن ثم يجب على تلك البلدان المسؤولة تاريخيا عن الانبعاثات الضارة – مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – أن تقود الطريق في إزالة الكربون من اقتصاداتها، وتقدم التمويل اللازم للدول الفقيرة حتى تتمكن من التكيف مع التغير المناخي عبر بناء المنازل والبنية التحتية التي يمكنها تحمل العواصف القوية، وتوفير طرق الهجرة الآمنة للنازحين، وزراعة الأشجار التي يمكن أن تبرد المدن وتجنب موجات الحر المميتة، ومساعدة البلدان على توسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والأغذية المغذية والمنتجة على نحو مستدام والمياه النظيفة والنقل والتعليم والطاقة المتجددة.
بمعنى أخر فإن مسألة إعادة توزيع الثروة والموارد لجعل المجتمعات أكثر مساواة وإنصافًا، مع توفير سبل عيش متنوعة هو أمر حاسم في استراتيجية التكيف مع تغير المناخ، إلا أن هذا ليس سوى جزء من الحل، ويكمن الجزء الأخر في التنمية المستدامة والتحول الأخضر.
*هدى البكر
المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية