يمكن وصف غابات حوض نهر الكونغو بأنها فسيفساء طبيعية بديعة من الأنهار والغابات والسافانا والمستنقعات، والتي تمتد عبر ستة بلدان هي الكاميرون، وإفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، والكونغو، وغينيا الاستوائية، والجابون.
لذا جاء الاجتماع التاسع عشر لأطراف شراكة غابات حوض الكونغو “Congo Basin Forest Partnership”، في ليبرفيل عاصمة الجابون خلال شهر يوليو الماضي، ليحدد آليات الإدارة المستدامة لغابات حوض الكونغو ويناقش حلول مشتركة لحمايتها من التدهور، ما دفع ألمانيا خلال الاجتماع لتخصيص 45 مليون يورو للحفاظ على غابات الكونغو.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو لماذا كل هذا الاهتمام بغابات حوض نهر الكونغو؟ وما هي شراكة غابات حوض الكونغو؟ وما هي أفضل الآليات للحفاظ على الغابات؟
مثل غابات حوض الكونغو، ثاني أكبر غابة مطيرة استوائية في العالم بعد غابات الأمازون، وهي تعج بالحياة والتنوع البيولوجي، فهي تضم ما يقرب من 10 آلاف نوع من النباتات الاستوائية، 30% منها تتفرد به المنطقة، هذا بالإضافة إلى أكثر من 400 نوع من الثدييات و1000 نوع من الطيور و700 نوع من الأسماك.
وتبلغ مساحة غابات الكونغو نحو 500 مليون فدان، وتوفر الغذاء والمياه العذبة والعلاج والمأوى لأكثر من 100 مليون إنسان، ينتمون إلى ما يقرب من 150 مجموعة عرقية، ترتبط حياتهم ورفاهيتهم ارتباط وثيق بازدهار غابات حوض الكونغو.
هذه الطبيعة المتفردة لهذه البقعة من الأرض تجعلها محورية في التخفيف من حدة التغير المناخي، حيث تعمل بمثابة الرئة الإفريقية لكوكب الأرض، فهي تمتص وحدها 1.2 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنوياً، أي نحو 4% من الانبعاثات العالمية، كما كشفت دراسة حديثة أن غابات حوض الكونغو أكثر مقاومة للظواهر المناخية المتطرفة من غابات الأمازون وآسيا.
ومن ثم تعد غابات الكونغو الاستوائية مكوناً حاسماً في دورة الكربون العالمية لأنها واسعة النطاق، وكثيفة الكربون، وعالية الإنتاجية، وبناء عليه، فإن الإدارة غير المستدامة لهذه الغابات سيكون له عواقب عالمية خطيرة، فيكفي أن نتصور أن فقدان غابات الكونغو المطيرة قد يؤدي إلى إطلاق 80 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
أهمية غابات الكونغو ودورها الفعال في التخفيف من حدة الاحترار العالمي، دفع نحو إطلاق شراكة غابات حوض الكونغو CBFP من جانب وزير خارجية الولايات المتحدة السابق كولن باول، ورؤساء دول وسط إفريقيا في مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة لعام 2002 في جوهانسبرغ كاستجابة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 54/214 الذي حث المجتمع الدولي على دعم الجهود الرامية إلى الحفاظ على غابات حوض الكونغو وإدارتها بشكل مستدام على النحو المبين في إعلان ياوندي الذي اعتمده رؤساء الدول في ياوندي في عام 1999، وتضم المبادرة نحو 117 شريك، من البلدان المانحة والبلدان المجاورة لحوض الكونغو، والمنظمات الدولية ومؤسسات البحث والجهات الفاعلة في القطاع الخاص، والمجتمع المدني ومنظمات السكان الأصليين.
تبدو مهمة هذه الشراكة الساعية إلى إيجاد آلية لإدارة مستدامة لغابات الكونغو صعبة في ظل تركيز المستثمرين من جميع أنحاء العالم بشكل كبير على إفريقيا لاستغلال الموارد الطبيعية الغنية في القارة، وهو ما يتم في أغلب الأحوال على حساب المجتمعات المحلية والبيئة، فهناك اتجاه متنامي يتمثل في شراء أو تأجير مساحات كبيرة من الأراضي في إفريقيا لاستخراج الموارد للتصدير، وهو ما حذرت منه الأمم المتحدة على اعتبار أن هذه الصفقات يمكن أن تقوض بشدة الأمن الغذائي، وتعوق التنمية الاقتصادية على المدى الطويل، وتؤدي إلى فقدان النظم البيئية الهامة.
هذا بالإضافة إلى أن حوض الكونغو أصبح هدفاً للعديد من مطوري الزراعة لخدمة الأغراض الصناعية على المستوى الدولي خاصة صناعات زيت النخيل والمطاط، وغالباً ما تغذي هذه المزارع إزالة الغابات على نطاق واسع وتشعل الصراع الاجتماعي.
أيضا يؤدي قطع الأشجار غير المستدام وغير القانوني في غابات حوض الكونغو من قبل الشركات الكبيرة والصغيرة المصدرة للأخشاب إلى إزالة الغابات، وتدمير موائل الحياة البرية، وتقليل القدرة على التكيف مع تغير المناخ ، وإلحاق الضرر بالمجتمعات المحلية.
هذه المخاوف وغيرها تدفع الأطراف المعنية للبحث عن آليات مبتكرة لحماية الغابات، وإدارتها بشكل مستدام، والتي يأتي في مقدمتها تمكين السكان الأصليين والمجتمعات المحلية من حراسة الغابات المطيرة وحمايتها، والحفاظ على تنوعها البيولوجي النابض بالحياة.
والتشريعات والقوانين المحلية من جانب، والاتفاقيات الدولية من جانب آخر، والشراكات والتحالفات المدنية من جانب ثالث لن تتمكن من حماية الغابات دون انخراط كامل من السكان الأصليين والمجتمعات المحلية، فهم خط الدفاع الأول عن هذا النظام البيئي المتنوع.
بمعنى آخر، فإن تمكين أبناء المجتمعات المحلية من سبل العيش المستدام والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل اللائقة التي تراعي استدامة النظام البيئي للغابات هو السبيل للحفاظ على الرئة الإفريقية للكوكب، وهو ما عبرت عنه بوضوح إيف بازيبا مسعودي، نائبة رئيس الوزراء، ووزيرة البيئة والتنمية المستدامة بجمهورية الكونغو الديمقراطية، خلال أعمال حوار بيترسبرج الثالث عشر حول المناخ الذي عقد خلال الفترة من 17 إلى 19 يوليو 2022 في برلين، والذي ركز على الاستعدادات لمؤتمر المناخ العالمي COP27 المزمع عقده نوفمبر المقبل في مدينة شرم الشيخ المصرية، حيث قالت إيف: “نحن نعيش في الغابة، وإذا لم يتم فعل أي شيء لمنح بديل للوصول إلى الرعاية الصحية، فسنأخذ سيقان وأوراق وجذور أشجارنا لمداواة أنفسنا، وإذا لم يتم فعل أي شيء بشأن بديل التعليم سنضطر باستمرار إلى قطع كمية كبيرة من الخشب لبناء المدارس وصنع المقاعد وكل شيء”.
أما الحديث عن دور المجتمعات المحلية في العمل المناخي فقد يطول، ولنا معه العديد من الوقفات.
* هدى البكر
المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية