أيام قليلة تفصلنا عن انطلاق أعمال مؤتمر الأطراف COP 27 بمنتجع شرم الشيخ، والذي نتطلع إلى أن ينجح في حشد قادة العالم، لاتخاذ نقلات نوعية في إنفاذ تعهدات والتزامات اتفاقية باريس، وقيام مجموعة العشرين -وهي مجموعة الدول الصناعية المسؤولة عن حوالي 75% من انبعاثات غازات الدفيئة، وصاحبة 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي- بدورها ومسؤولياتها تجاه ظاهرة تغير المناخ وتداعياته.
هذا، ويأتي انعقاد مؤتمر الأطراف في ظل تعقد المشهد الدولي جراء مجموعة من الأزمات العالمية المتتابعة والمتزامنة، ومنها تبعات أزمة كوفيد 19، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والركود الاقتصادي، وتعثر سلاسل الإمداد العالمية، وأزمة الطاقة، وهي كلها أزمات كان من شأنها أن تدفع باتجاه تراجع الاهتمام بتغير المناخ، إلا أن ما شهدته مناطق متفرقة في العالم من ظواهر مناخية متطرفة خلال صيف 2022 لم يسمح بهذا التراجع، بل زاد من الإحساس بكارثية الاحتباس الحراري وتداعياته التي تطال الجميع في أي مكان، حيث لم تعد أية بقعة في الكوكب بمنأى عن الخطر.
لقد كان صيف 2022 الأكثر سخونة على الإطلاق بالنسبة لأوروبا والصين، وثاني أكثر الفترات سخونة في أمريكا الشمالية وآسيا، كما تم تسجيل الفترة من يونيو إلى أغسطس على أنها أكثر الفترات سخونة لكوكب الأرض منذ أن بدأ تسجيل حرارة الأرض في عام 1880، وذلك طبقا لبيانات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في المراكز الوطنية للمعلومات البيئية NOAA’s National Centers for Environmental Information. لقد صاحبت موجات الحرارة الخطرة أيضا فيضانات مفاجئة مدمرة، وحرائق غابات، وجفاف مستمر، وبهذا يمكن وصف صيف 2022 (يونيو – أغسطس) بأنه كان موسماً متطرفاً بامتياز.
هذه الحالة المناخية الاستثنائية والخسائر والأضرار المتسارعة التي يخلفها تغير المناخ والتي تتجاوز قدرات البلدان على التكيف، تجعل من قمة شرم الشيخ اختبارا حقيقيا لجدية المجتمع الدولي وخاصة قادة العشرين في التعامل مع تغير المناخ والأضرار التي يلحقها بالكوكب.
وفي إطار التمهيد لأعمال مؤتمر الأطراف، وفي سياق جهود المجتمع المدني العربي المتنامية لحشد المجال العام – والذي يضم الحركات الاجتماعية والتنظيمات الأهلية وممثلي المجتمعات المحلية والإعلاميين والعلماء والأكاديميين وغيرهم من أطياف المجتمع المتضررة من تدهور حال كوكبنا- حول قضية تغير المناخ، فقد عقدت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية مطلع أكتوبر 2022، النسخة الأولى من المنتدى العربي للمناخ، تحت شعار “معا لتعزيز إسهام المجتمع المدني في العمل المناخي والاستدامة”، وذلك تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن طلال بن عبد العزيز آل سعود رئيس برنامج الخليج العربي للتنمية “أجفند”، ومعالي وزيرة البيئة المصرية د. ياسمين فؤاد، ومعالي السفيرة د. هيفاء أبو غزالة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية.
وطرح المنتدى في نسخته الأولى، مجموعة متميزة من أوراق العمل والدراسات ذات الصلة، حيث جاءت الورقة الرئيسة في الجلسة الأولى، والتي أعدها د. سمير مرقص المفكر التنموي، تحت عنوان “زمن التدهور المناخي 1972-2022” بهدف تأصيل ظاهرة تغير المناخ والبحث وراء أسباب حالة التدهور المناخي التي يعيشها كوكبنا المشترك، مع التأكيد على أن المجال العام بكل أطيافه هو اللاعب الرئيس في الضغط على الحكومات والكيانات الاقتصادية لبدء الزمن الأخضر أو الحقبة الخضراء.
رصدت أوراق عمل المنتدى أيضا تأثير تغير المناخ على القطاعات السكانية الأكثر هشاشة وهم المرأة والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن، وأكدت جميع الإسهامات البحثية على أن اللامساواة القائمة بالفعل تزداد عمقا وتعقيدا بفعل تغير المناخ وتداعياته التي تصيب الفئات الأكثر هشاشة وتزيد من هشاشة أوضاعهم وتعرضهم لأخطار وجودية.
وطرحت أعمال المنتدى أيضا عواقب تغير المناخ على الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على الموارد الطبيعية، والتي تعد الأكثر عرضة للخطر جراء الاحتباس الحراري، وكذلك هشاشة أوضاع العاملين بها، وفي مقدمتها الزراعة وصغار المزارعين، وأنشطة الصيد والصيادين، والصناعات التراثية التي يعيش أصحابها في البيئات الحارة والتي تزداد سخونة مما يهدد استمرار وجودها. واستعرضنا في هذا السياق تجارب متميزة لمؤسسات عربية في دعم صغار المزارعين منها بنك الإبداع في السودان، ومؤسسة كير مصر، وكذلك دعم أصحاب الحرف التراثية مثل تجربة مشروع أخميم للنسيج اليدوي في جمعية الصعيد للتربية والتنمية.
تناول جانب من أوراق العمل دور مؤسسات التنشئة ووسائل الإعلام والمجتمع المدني في توطين الوعي بقضايا البيئة والمناخ، وآليات تفعيل هذا الدور وتعظيمه في المنطقة العربية. كما حرصنا خلال أعمال المنتدى على عرض العديد من التجارب العربية الناجعة في التكيف والتخفيف، مع التركيز على إسهامات ومبادرات الشباب المبتكرة كمؤسسة جرينيش ومبادرة شجرها ومؤسسة تكوين لتنمية المجتمعات المتكاملة.
من المهم أيضا الإشارة إلى أن المنتدى قد طرح التحول الأخضر من منظور التحول المنظومي في بنية النظام الاقتصادي العالمي، وذلك عبر تبني سبل الإنتاج والاستهلاك المستدامين والتي تعتمد على التخلي الكامل عن الإنتاج الجائر والاستهلاك المفرط وهدر الموارد.
لقد أعد أوراق عمل المنتدى ما يزيد عن عشرين خبير/ة عربي، وشارك في أعمال المنتدى مجموعة كبيرة من قادة وممثلي الهيئات الحكومية والتنظيمات الأهلية ومؤسسات التمويل والأكاديميين والخبراء من أكثر من خمسة عشر دولة عربية، واستهدف المنتدى في نسخته الأولى تقديم رؤية بانورامية لتغير المناخ وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وموقع المجتمع المدني العربي منها، تمهيدا لاقتراح سياسات عامة – من وجهة نظر المجتمع المدني – للمساهمة في حل المعضلة المناخية من موقعه عبر دمج المقاربة المناخية في العمل التنموي.. فما هي السياسات التي يطرحها المنتدى العربي للمناخ؟ هذا ما سوف نطرحه في المقال القادم.
- * هدى البكر
المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية